( أردّتُ أن أغنّي .. وبّخوني ..
وضربوني بالحجارة ) .
*** مصطفى الحاج حسين .
في طفولتي .. كان والدي يأخذني، أنا وأخي سامي ، معه
إلى الشّغل ، وأبي يعمل في مهنة البناء ..
وأخي سامي يكبرني بسنتين وأكثر .
يأخذنا في أوقات
العطل المدرسيّة .. وأيام الجُمَع ، أو المناسبات القوميّة
والوطنيّة .. أو العطلة الانتصافية .. أو العطلة الصّيفية ..
وكان والدي لا يأخذنا للشغل بدافع أن يكسب من وراء
عملنا .. فقد كنّا صغاراً .. لكنّه كان يريد إراحة أمٌي من
شغبنا ، وخاصة أنا ، لأنّ أخي كان عاقلاً ، ولا مشاكل
له .. أمّا أنا .. آهِ .. لن أفضح نفسي .
ومهنة البناء -كما يعلم الجميع - مهنة شاقّة وصعبة ..
حمل أحجار .. إسمنت .. سقالة .. سلالم .. أدراج ..شمس
حارقة .. أو برد شديد .. غبار .. تعب .. ارهاق .. عرق
يزخّ ..
وكان أخي سامي يملك منذ صغره .. موهبة
الغناء : صوته جميل .. وأذنه موسيقيّة .. يعزف
الموسيقى
بلسانه .. لأنّه هكذا كان يتخيل .. قبل وجود التلفاز ..
يستمع إلى الأغاني من الرّاديو .. ويظنّ أنّ الفرقة
الموسيقية
تعزف الموسيقى بالسنتها .. ياالله من هذا الخيال .
ولأنّ أخي يملك صوتاً جميلاً ، كان أبي والعمّال الذين
يعملون معه ، يطلبون منه أن يقعد في الفيء ، في ظلّ
الحائط ، ويأخذ بالغناء ، وهم يشجّعونه ... وأنا الأصغر
منه بأكثر من سنتين ، كان عليّ أن أشتغل .. أن احمل
الأحجار الثقيلة ،أو أسطلة الإسمنت التي تقطع
الأصابع .. وحين كنت أتلكّأ .. كان والدي وعمّاله
يصرخون بي :
- هيا .. اعمل .. لا تتوقّف .. وكنتُ أغار من
أخي .. رغم حبّي الشّديد له ، ورغم إعجابي بصوته .
ومرّة تشجّعتُ .. وقرّرتُ أن أفعل مثل أخي .. أردّتُ
أن أقلّده ، وأقوم بالغناء .. وكان هو لا يغنّي إلاّ ( لصباح
فخري ) ، لذلك حفظتُ قصيدة (قل للمليحة ... )..
وفاجأتهم
بصوتي ، وما إن قلتُ ../ث( قل للمليحة ..) ، حتّى
أسكتوني ،
صرخوا بي ، وقذفوني بالحجارة :
- ( أخرس .. الله يلعن هل صوت ) .
خجلتُ .. وخرستُ .. وتألمتُ .. وحسدتُ أخي ، وكرهتُ
نفسي ، وكرهتُ العمال .. وأيضاً كرهتُ أبي ، وأردّتُ أن
أبكي ، وأن أتوارى ..
ومنذ ذلك اليوم ، أنا لا أجرؤ على الغناء ، حتى لو
كنتُ بمفردي ، وفي الحمّام ، رغم أنّي لا أنقطع عن
الغناء .. ولكن بداخلي فقط .. دائما في داخلي .. أغنّي ..
وأحلم أن أسمعَ صوتي لكلّ العالم ، ولهذا أحبّ كتابة
الأغنية .
مصطفى الحاج حسين .
اسطنبول